السبت، 3 أبريل 2010

رجاء لا تظلموا أبا لهب




كان أبو لهب نائما في غياهب القرون، يترقّّب يوم النّشُور كي يدفع ضريبة جاهليته ويصلى نارا ذات لهب، وإذا بالجاهلية ذاتها مستيقظة فينا بظلمها وظلماتها وفسادها وقبائلها المتناحرة.. وإذا بأبي لهب يتناسل "متناسخا" في دنيا الناس بلا خوف من النار ذات اللهب، فهو حاكم أو رجل أعمال أو مسؤول أو أو.. حتى صارت سطوة المال وسياط الجاه وممارسة الرشاوي والاختلاسات والفوضى والعبث بحقوق البسطاء.. وكل ما فعله أبو لهب وكل ما لم يفعله ويتجاوز قدرة عبقريته الجاهلية، صارت من شعائر الحياة اليومية وعنوان الصباحات والمساءات العربية، حتى كادت هذه الشعائر أن تخرج بالقلوب المؤمنة والضمائر الحيّة إلى عوالم الكفر والمكاره والمناكر.
في تلك الجاهلية البعيدة كان هناك أبو لهب واحد، وكان هناك صعاليك لا يتكرّرون، هائمين في الفلوات والشّعاب يستأنسون بالوحوش ويعلنون رفضهم وتمرّدهم دون أن تطالهم سيوف القبيلة..
وكانت هناك أعراف وتقاليد، هي "دساتير" القبائل والعشائر، لها منزلة القداسة والخروج عنها قد يشعل نيران حروب يمتد لهيبها إلى عشرات السنين دون أن تخبو أو تنطفئ.. كان هناك نوع من النظام يحكم حركة القوافل ويفصل في قضايا الانتماء والانتساب ويحفظ "الهيبة" وينتصر للشرف وو.. وأبدا، لم يكن هناك أقنعة وأكاذيب، فالأسياد أسياد والعبيد عبيد، كلّ يعرف وزنه وموقعه وحقوقه ويمارس "جاهليته" بلا تستّر ودون تغطية تحت مفاهيم وهمية..
كانت جاهلية لم تخلُ من حكمة وبطولات وفضائل، وهي جاهلية لها أعذارها في توحّشها وإهدارها لقيمة الإنسان وحتى في قذارتها، فلم يكن هناك دين سماوي ولا فكر علمي ولا تكنولوجيا.. كل ما كان هنالك يدعو إلى الكرّ والفرّ أو الحلاب والصرّ.
أما جاهلية هذا الزّمن الأعرج، ففي كل يوم يُولد أبو لهب وصار الحديث يدعو إلى رصد "بني لهب".. وتكاثر الصعاليك والشطّار وقطّاع الطرق والأعناق والأرزاق.. فقط، تحت مسميات أخرى وبأشكال مختلفة.. ولكنها جاهلية تنيرها أضواء التكنولوجيا وترويها العلوم والفنون والمنظّمات والأحزاب والهيئات والمفاهيم وحرية التعبير وحقوق الإنسان وو..
وإذن لماذا ينظر العرب إلى جاهلية أبي لهب وكأنها مرحلة العار في تاريخهم؟ ولماذا لا يذكرون في معرض مفاخراتهم إلا المراحل الذهبية في تاريخهم.. رغم أن صنّاع ذلك التاريخ يختلفون عن عرب جاهلية اليوم في كل شيء.. حتى في طباع الشهامة والرجولة والنجدة وو.. ولأن الطبائع قد زالت، فمن يكون هؤلاء الذين يتسمّون عربا؟ أو من يكون أولئك الذين سموا أنفسهم عربا؟ فلا يمكن للـ"عربين" أن يكونا أبناء الخيمة والبعير.
أقسم لو أن صعاليك جاهلية القرون الغابرة بُعثوا في دنيا الناس اليوم وعايشوا ذل وهوان الراهن، لتبرؤوا من انتمائهم للعرب.. أبو لهب ذاته، يكون أكثر تحضّرا ممّن يضعون أيديهم على المصاحف والدساتير ويقسمون على إجراء العدل وخدمة الأوطان، ثم يرتدّون إلى ممارسة الأفعال المخلّة بتاريخ الأمة ومستقبل أجيالها..
رجاء لا تظلموا جاهلية أبي لهب، فبنو لهب يسكنون فيكم وبينكم، ومنهم من يتلو "تبّت يدا أبي لهب وتبّ ماله وما كسب" ثم لا يتردّدون في مد أيديهم للي الأعناق ومصادرة الأرزاق.. وإفناء الحياة، وتبّت أيادي بني لهب...

0 التعليقات:

إرسال تعليق